كتابة – صور: مارينا ميلاد
بلا حذاء، وبجلباب متسخه وممزقه.. دَخل عاطف أبو سليمان قريته “الشريف” بمحافظة بني سويف، في العاشرة صباح أمس الخميس.. قابله ترحاب ممتزوج بالذهول.. لقد نجا من إعصار مدينة درنة الليبية، الذي ابتلع أغلب شباب القرية العاملين في ليبيا.
زاغت عيني “عاطف” بين بكاء وسواد يملأ القرية وبيوتها، كان صامتًا ومصدومًا حتى أنه لم يستمع جيدًا إلى أي كلمة توجه له.. فلا شئ في رأسه سوى ما عايشه في الثلاث أيام الماضية: المياه التي جرفت المدينة وغمرت مسكنهم، غرق شقيقه وأصدقاؤه أمامه، واضطراره إلى التعرف على جثث منتفخه وفاقدة المعالم، كلها لأصدقاء وجيران.
فتلك القرية الصغيرة الفقيرة، التي تبعد عن العاصمة حوالي 160 كيلومترًا، فقدت وحدها نحو 68 شخصًا، من أصل 87 جثمانًا وصلوا إلى مصر خلال هذه الأيام، إلى جانب فقدانها آخرين.
انهمرت زوجة “عاطف” في البكاء حين رأته. وفي تلك اللحظة؛ لم تكن تدرك مشاعرها، فتقول: “لا أعرف، هل افرح لعودة زوجي؟، أم احزن لموت أشقائي الثلاثة!؟”.
استلقى عاطف (37 سنة) على سريره، فلم ينم منذ ثلاثة أيام إلا قليل. لكن ما جرى له ظل يلاحقه ويغالب النوم. فكلما اغمض عيناه، تذكر كيف بدأ كل شئ وانقلبت الحياة حوله في ثوانِ معدودة.
مساء الأحد، 10 سبتمبر
في ذلك اليوم؛ لم يخرج “عاطف” (37 عامًا) إلى عمله كسائق أوناش بسبب التحذيرات من إعصار دانيال، لدرحة أن أمن مدينة درنة ناشد سكان الساحل والأودية بمغادرة منازلهم. لكن الحوش الذي يسكنه “عاطف” في منطقة “الجبيلة” مع ثلاثين من أبناء قريته لم يكن قريبًا من البحر إلى هذا الحد.
لذا لم يبالغ الرجل في توقعاته وخوفه. فنظر إلى الأمر على أنه “أمواج عالية من البحر، وأمطار، ليس أكثر”. هكذا اعتقد وغيره من المصريين الساكنين الأحواش المجاورة مثل جمال مرزوق، وأشقاء زوجته الثلاثة، فتواصلوا جميعًا مع أسرهم ولم يبدوا أي ذعرًا.
ثم حَلت الواحدة صباحًا.
كان الجميع نائمون، إلا أن سَمع “عاطف” صوت دق رهيب على باب حوشهم. لا زال الصوت نفسه يتردد في أذنه الآن، وهو يحاول النوم في بيته.
فتح الرجل الباب ليداهمه زائر مرعب، لم يتوقع قدومه، حيث غمرت المياه الحوش كله في دقيقة واحدة وأيقظت الجميع ليجدوا أنفسهم يغرقون، كما يصف “عاطف”.
لم يفهم ماذا حدث؟. ركض ناحية الفناء الخلفي للبيت، فالقى صاحب الحوش، وهو رجل ليبي، شيئًا أشبه بحبل ليلتقطه “عاطف” ويصعد عليه، حيث الشقة في الدور الثاني.
فعلها “عاطف” وأنقذ ثلاثة من رفقائه، لكن المياه ظلت تعلو أكثر فأكثر، حتى اختقى تحتها الباقين، ومنهم شقيقه الأصغر (33 عامًا).
حاول “عاطف” أن ينزل لينقذ أخيه، لكن صاحب الحوش منعه، وحذره: “إن نزلت، فلن تصعدوا أنتم الإثنين”.
قام “عاطف” مفزوعًا من نومه حين تذكر اللحظة التي اضطر فيها لترك أخيه وكان عليه الهروب.
فتحت زوجة “عاطف” الباب لتبلغه بقدوم جيرانهم في القرية ليطمئنوا عليه.. قام واستقبلهم في ساحة بيته المفتوح بابه – كالمعتاد في بيوت القرى. وتقاطعت أصوات الصراخ الآتيه من البيوت المجاورة مع أصواتهم.
فلم يخلو بيتًا في هذه القرية تقريبًا من ضحية أو اثنين أو أكثر، خاصة وأن أغلب سكانها، البالغ عددهم نحو 9 آلاف شخص (حسب موقع المحافظة في أخر إحصاء عام 2013)، هم أشقاء وأقارب. فتكشف أبواب بيوتها المفتوحة عن سرادقات عزاء للرجال، ونساء تتشحن بالسواد وتفترشن الأرض.
يتجمع الكثير من هؤلاء النساء حول”فاطمة”، ليواسوها في وفاة أبنائها الثلاث، وهم أشقاء زوجة “عاطف”. تتحدث إليهن السيدة الخمسينية، وهي تلطم على خديها، عن الظروف التي جعلت أبنائها وغيرهم من شباب القرية يسافرون، فتقول: “لو كانوا وجدوا عملا هنا، لن يفكروا في سفر!؟”.
ثم تلتف لتشير إلى أحفادها الذين تركوهم، وتكمل: “قالوا كيف نطعم أولادنا ونعملهم؟.. فلم استطيع منعهم”. لهذا قرر ابناها التوأم (29 سنة) السفر إلى هناك بطريقة غير شرعية، كلفت كل منهما 15 ألف جنيه، ثم لحق بهما شقيقهما الأصغر (18 سنة) قبل 7 أشهر، لكن جوًا بتكلفة 27 ألف جنيه، تقول الأم: “إنه استلفهما ولم ينه سدادهما”.
ربما أراد أبناء “فاطمة” أن يحذو حذو غيرهم من أبناء القرية، الحاصلين أغلبهم على شهادات الدبلوم، والذين يتفقون مع أحد السماسرة ليأخذهم إلى مدينة السلوم، ومنها إلى ليبيا، حيث يعملون هناك في مجال البناء.
فلم يختلف ما فعلوه عن زوج شقيقتهم “عاطف”، الذي ذهب وعاد من ليبيا أكثر من مرة خلال السنوات الماضية، على أن يدفع 10 آلاف جنيه في كل سفر له، لكن “هذه المرة ستكون بلا رجعة”، كما يحكي لزائريه.
لا حديث مع “عاطف” من جانب هؤلاء المترددين عليه إلا عن “كيف نجا وعاد إلى هنا؟”. فجعلوه يسترجع مجددًا ما حَدث وقَطع نومه قبل مجيئهم.
ظل “عاطف” ومن معه يصعدون على السلالم، والمياه تلاحقهم، حتى وصلوا إلى سطح البيت المكون من 6 طوابق. بقوا عليه حتى السادسة صباحًا.
ولما شعروا بانخفاض المياه تدريجيا ووصول سيارات، نزلوا إلى حوشهم وجمعوا الجثث، التي تراكمت فوق جثث أخرى من المنطقة، حتى وصل عددهم إلى 100 جثة، ذهبوا بهم إلى المستشفى لينهوا الاجراءات.
يطل “عاطف” من شباك السيارة، ليعاين منطقته التي لم يعد يميزها، فلا محال ولا شوارع ولا بيوت، فيحكي عن دمار وجثث مبعثرة وسيارات وبيوت تتأرجح وشوارع مغطاة بالطين والركام.
موقع منطقة “عاطف” المنخفض زاد من مصيبتها. فمدينة درنة، التي يبلغ تعداد سكانها نحو 100 ألف نسمة، تتوسط الجبل الأخضر (جنوبها) وساحل البحر (شمالها)، ما يجعلها منطقة منحدرة.
وقد عَرف “عاطف” في ذلك الوقت من الموجودين أن ما حدث للمدينة، ليس مجرد إعصار أو أمطار غزيرة، إنما انهارت سدودها، وهما سدّ أبو منصور وسدّ البلاد لضغط المياه المتراكمة ولسبب أخر، أشار له مسؤولون، وهو عدم صيانتهما.
انصرف الجميع من حول “عاطف”، ليبقى وحده فريسة صور متلاحقة تجري أمامه لتلك الجثث التي تعرف عليها عند وصولهم المستشفى.
يقول بصوت خافت، ناظرًا إلى الأرض: “لم أكن قادرًا على فعل ذلك.. منظر الجثث مرعب.. لكن لا أحد غيري يعرف جميع الموجودين”.
تعرف “عاطف” على شقيقه، أشقاء زوجته، وعلى جاره جمال مرزوق. ولم يتمكن من التواصل مع أحد بقريته بعدما أدت العاصفة إلى قطع الاتصالات والكهرباء، لكن الأخبار سبقته من خلال تلك الكشوفات التي نشرها الموجودون هناك على صفحات موقع “فيسبوك”.
فتقول راندا محمد (زوجته جمال)، وهي تحمل طفلها الرضيع وحولها أبنائها الأربعة، “كنا على أمل أن يكون هناك خطأ في الاسم المنشور أو أنها ليست جثته، حتى جاء ودفناه”.
قضى “عاطف” يومًا مع الجثث في مركز طبرق الطبي، ثم تحرك مع سيارات وفرها مسؤولون ليبيون إلى الجمرك البري بين مصر وليبيا، فيما ذهبت جثث المصريين إلى المطار لنقلها.
ولا يوجد إحصاء رسمي بعدد المصريين العاملين في ليبيا، لكن منظمة الهجرة الدولية تقدر نسبتهم بـ 21% من إجمالي العاملين الأجانب هناك.
وصلت الجثث قبل يوم من عودة “عاطف” إلى قريته. حملتها عربات الإسعاف وشقت طريقها من وسط القرية إلى المقابر في مشهد بلغ الحزن فيه ذروته.
دَفن ياسر محمد ابنه الأكبر، ولم يصل جثمان ابنه الثاني “عماد” ذو الـ18 عامًا. لازال مفقود. لكن الموجودين هناك ابلغه والده أن ثمة جثث يصعب التعرف عليها، وسيتم دفنها في مقابر جماعية، وهو ما سيصعب فيما بعد مسألة إصدار شهادة وفاة له.
يقول الأب وهو يذرف الدموع: “كنت أتمنى حتى أراه لأخر مرة، وإن مات، ادفنه بيدي”.
فيما تجوب إصلاح شكري القرية ببطاقة ابن شقيقتها، الذي تأكدت من أنه حيًا واستطاع أن يتواصل معهم ويخبرهم أنه في مكان ما فوق الجبل، لكن لا غذاء ولا ماء، وينتظر الاغاثة. لكن السيدة الستينية لا تعرف ما عليها فعله لتنقذه، ولا لأي مكان تتجه.
على ناحية أخرى، أعلنت وزارة الخارجية المصرية أنها تتابع الوضع، وجهود البحث والإنقاذ، وكذلك الحصول على البيانات الخاصة بالضحايا وسبل حصر أعدادهم.
لكن ليبيا المقسمة بين حكومتين متنافستين، بمشهدها المخيف الحاصل في درنة، وعمل فرق الإغاثة الدولية بها، وتزايد مقابرها الجماعية، لا يمكنها حتى الآن عمل أي إحصائيات رسمية دقيقة لعدد الضحايا والمفقودين، إلا أن جميع التقديرات تشير إلى أنهم آلاف.
“أذهلنا حجم الدمار… المأساة هائلة، وتتجاوز قدرة درنة والحكومة”، فيقول عثمان عبد الجليل (وزير الصحة في شرقي ليبيا)، لوكالة أسوشيتد برس للآنباء، “أذهلنا حجم الدمار… المأساة هائلة، وتتجاوز قدرة درنة والحكومة”.
ستعيش تلك المشاهد المؤسفة في ذاكرة عاطف أبو سليمان وقريته طويلا. ربما لن يغب عنه مشهد يد شقيقه أو أحد أصدقاؤه وهي خارجة من تحت المياه تبحث عمن يمسك بها ويخرجها.. ولن يغب عن “فاطمة”، التي فقدت أبنائها الثلاث، أن ابنها نجا من حرب وخطفه من عصابات مسلحة لطلب فدية، ثم عاد ليموت هكذا.. ولن يغب عنهم جميعًا: كيف تحول ملاذ لقمة العيش إلى قبرًا؟.
يقول “عاطف”، وهو شاخصا ببصره ومحتضنا أبناءه الثلاثة وأبناء أخيه، “لست مستوعبًا أي شئ حدث.. لا أعرف كيف فقدت أخي وزملائي، ولا كيف نجوت ووصلت إلى هنا؟”.