06:03 م
السبت 12 أكتوبر 2024
الشرقية – مصراوي:
في زاوية منعزلة من شارع فى مدينة الزقازيق، حيث تتداخل أصوات الباعة الجائلين مع صخب الحياة اليومية، وقف رجل بسيط قارب الستين عاماً، خلف سحابة دخان، يشوي قطعًا من السمك، كل قطعة تحمل معه ذكريات وحكايات عن الحياة، تتراقص ألسنة النيران حول السمكة، كأنها ترقص احتفالًا بانتصار الإرادة على الظروف، هو ليس مجرد شيف سمك، بل صانع أمل، يبني مستقبلًا لأسرته بكل قطعة يشويها.
بعد تخرجه فى معهد الكفاية الانتاجية بجامعة الزقازيق قبل 40 عامًا، لم ينتظر “عم حسن محمد”، أن تأتيه الفرص على طبق من ذهب، وقرر أن يصنع مستقبله بيديه، وببداية متواضعة لا تتجاوز 200 جنيه، انطلق في رحلة كفاح طويلة لتأمين مستقبل أسرته، متغلبًا على كل الصعاب، وبعد أن فكر مليًا، قرر أن يحول فكرته إلى واقع، وبأقل التكاليف، صنع فرنًا بسيطًا وفرش ركنًا صغيراً في الشارع.. كانت البداية صعبة، لكنه كان مصمماً على النجاح، وبفضل إصراره وعمله، تحول هذا الركن الصغير إلى مصدر رزق لعائلته، واليوم، وهو أب لأربعة أبناء ناجحين، يقف فخوراً بما حققه من إنجازات، مؤكداً أن الإصرار والعزيمة هما مفتاح النجاح.
يتذكر “عم حسن” بابتسامة عريضة أول يوم له في عمله الجديد، ويقول لـ”مصراوي”،: “كنتُ أحمل في جيبي أقل من مائتي جنيه، لكن كان قلبي مليئًا بالأمل.. اشتريت بعض السمك، وصنعت فرنًا بسيطًا، وبدأت العمل. كنتُ متوترًا، لكن زوجتي طمأنتني وقالت لي: “لا تخف يا حسن، رزقنا مكتوب. ابدأ ببسم الله، وسترى البركة في عملك”، رفعت رأسي عالياً، وأخذت نفسًا عميقًا، وشويت أول سمكة.. رائحة السمك المشوي اللذيذة انتشرت في الهواء، وبدأ الناس يتوافدون، والحمد لله، بيعت كل الأسماك في نفس اليوم، وشعرت بأن الله يبارك في عملي. كانت كل ابتسامة على وجه زبون، وكل كلمة شكر، تزيد ثقتي بنفسي وقراري”.
ويواصل حديثه قائلا: “‘في البداية، كان كيلو السمك لا يتجاوز جنيهًا واحدًا، وكانت الحياة بسيطة وسعيدة، وكنتُ أبيع الكثير، والناس كانوا يحبون طعامي، كنتُ أرى في كل زبون صديقًا، وفي كل جنيه أربحه فرصة لتوفير مستقبل أفضل لأولادي والحمد لله، حصل اثنان منهم على بكالوريوس هندسة وابني الثالث في تجارة انجليزي وبنتي الصغيرة بتدرس وهتتخرج من كلية قمة مثل أخواتها”.
لم تكن رحلة “عم حسن”، مفروشة بالورود، بل واجه العديد من التحديات، من ارتفاع أسعار السمك إلى المنافسة الشديدة من المطاعم الكبرى، إلا أنه بفضل إصراره وعزيمته، تمكن من التغلب على كل هذه الصعاب.
وعن علاقته بوالديه، يقول بائع السمك المشوي بحنين: “تربيت في كنف أسرة حنونة، فتعلمت معنى الحب والعطاء. ما رأيته من أبوي وأمي من حنان، حرصت على أن أزرعه في قلوب أولادي. كنتُ أرى فيهم صورة مصغرة لنفسي، وأسعى جاهدًا لتوفير كل ما يحتاجونه ليكونوا سعداء ومستقرين”.
وقف “عم حسن” أمام الشواية يقلب سمكة بلطى وعيناه تتأملان اللهيب، بعدها قال: “قضيت أربعين عامًا أعمل في الشارع، وتعلمت خلال هذه الفترة الكثير عن الحياة والبشر. التعامل مع مختلف الأشخاص في ظروف متنوعة علمني الكثير عن الصبر والدبلوماسية. اكتشفت أن الكلمة الطيبة والوجه البشوش هما مفتاح التعامل مع الناس، وهما الدرس الذي تعلمته من والدي وأعتز به كثيرًا”.
ومن الطريف أن علاقته بالزبائن تطورت لتتجاوز مجرد العلاقة التجارية، فبابتسامته الدائمة وكلماته الطيبة، استطاع أن يكسب قلوب الكثيرين، وأصبح بعضهم أصدقاء مقربين يلتقون به بانتظام، وحتى بعد سنوات طويلة، عندما يعود بعض الزبائن من سفرهم، يحرصون على زيارته وتذكره بمحبتهم، ويشعر “عم حسن” بسعادة كبيرة عندما يتذكر هذه اللحظات، ويؤكد أن هذه العلاقات الإنسانية هي أغلى ما يملك.
في شبابه، كان العم حسن يعمل لساعات طويلة، من الفجر حتى المساء، دون كلل أو ملل، يكدح ليل نهار لتوفير لقمة العيش لأسرته، ومع تقدم العمر، قلل ساعات عمله، وأصبح أبناؤه يشاركونه المسؤولية، ويضيف: “كنت أحلم بفتح محل صغير، ولكنني أدركت أن السعادة الحقيقية تكمن في الرضا بما لديك، لذا لم أغير شيئًا في عملي البسيط، فالشواية والسمك هما نفسيهما منذ البداية، أشعر بسعادة غامرة عندما أرى ابتسامة على وجوه الزبائن، واعتبرهم جزءًا من عائلتي، ورغم ارتفاع الأسعار ، إلا أن الزبائن ظلوا أوفياء لي. أنا راضٍ تمامًا بما حققته”.