جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
مع تطور حجم مأساة استهداف إسرائيل للمدنيين أطفالا ورضع ونساء ومسنين فى غزة وما يرتبط بها من حجم تدمير واعتداءات، يتصاعد توازيا معه زخم رأي عام دولي موسع مندد ورافض لاستمرار العدوان، وجد حضوره الشعبى غير المسبوق تاريخيا فى مظاهرات فى دول الغرب والعالم ثم امتد ليشهد تجليات فى المواقف الرسمية لكثير من أجهزة صنع القرار والساسة ينمو بتأثير ذلك، هذا الرأى العام الشعبى العالمى والغربى جمع بشرا ينتمون إلى حيز ومبادئ الإنسانية، يدعم ويطالب بذات الموقف العربى الموحد وهو وقف العدوان الإسرائيلى على غزة، ويتبنى دعوة فورية لوقف إطلاق النار، وحيث تتوالى مع كل ذلك أسئلة بشأن من صنع ذلك الفوز العربى غير المسبوق فى ساحة عقول ومدركات الرأى العام الدولى والغربى تحديدا؟.
تبرز هنا منصات السوشيال ميديا – البشر والوسائط معا- والتى صارت الساحة المركزية لتدفق الصور والرسائل والتمثيلات الوجدانية عبر شاشة الشاشات المركزية “هواتف المحمول”، وحيث مر هذا التدفق عبر انتقاء الجمهور وتعاطفه، ثم مساهمته فى زيادة مساحة نشره وتداوله، وحيث يتبقى نموا ما يفوز بالمشاهدة والإعجاب والشير والترويج مؤثرا ومتسعا ومحاصرا للجميع جمهورا وساسة لا يمكن النفاذ من أثره.
أول ما نجده ونلاحظه هنا أن ذلك التدفق المستمر لتصوير وقائع ما يحدث فى غزة من عدوان أن ذلك التداول للرسائل والنصوص المكثفة التى باللغة العربية كان دوما متواجدا ولم يصنع أثرا شبيها قط، وكان حالة من تدوير الرسائل بين جمهور يحمل نفس التوجه والرؤى غالبا ولا يتعداهم إلا قليلا ومن ثم لم يجلب زخما موازيا من قبل، يبقى السؤال المكمل للملاحظة ومن صنع ذلك الزخم والمواقف لدى الرأى العام الغربى والدولى؟ تمنح المؤشرات والتحليل الأولى رؤية أولية مهمة عن دور ذلك الجيل الشاب من ذوى الأصول العربية تحديدا ونظرائهم من شباب مواطنى دول العالم والغرب تحديدا، ومعهم وإلى جوارهم بشكل مؤثر جزئيا بعض من أبناء المنطقة العربية ممن نشروا محتوى رسائلهم بلغات دولية مختلفة عبر سياقات تصل بهم إلى جمهور غربى تعاملوا معه أو لديهم روابط ثقافية أو اجتماعية أو تعليمية بهم، هؤلاء من نقلوا كل ذلك التوثيق للفظائع ومنحوه طابعا وزخما دوليا فى المجتمعات التى يعيشون فيها فى أوروبا والولايات المتحدة ودول أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية وأسيا واستراليا وكل العالم، ثم وعلينا ألا ننسى قط أنه قد تكفلت الفطرة الإنسانية والقيم التى تربى عليها سكان تلك المجتمعات على رؤية مواطن الحق وغلبت مناصرة المدنيين المستهدفين من آلة حرب مهولة.
أظهرت هذه الأحداث أيضا محدودية بل وربما اختفاء نسبى لأثر ودور الإعلام التقليدى شاشات ومشاهير فى ساحة صناعة الصور والتمثيلات لدى الرأى العام الدولى فى أزمة غزة، بل شاهدنا أن كثيرين منهم فى أكبر شاشات الغرب “التقليدية” عملت عن عمد دعما لاستمرار وتوسيع مشاهدتها للاستعانة بالمؤثرين على منصات السوشيال واستضافتهم فى برامجها ليستجلبوا جمهورا أوسع ومشاهدات أعلى، فهل كان ذلك اعترافا واضحا ومبكرا بالهزيمة فى حرب ترويج الصور والرؤى والأفكار مع المنصات الرقمية ومنصات التواصل تحديدا .. وهل تلك هى البداية فقط ؟!
كذلك تبين لنا أنه وفى الأزمات الكبرى والحروب التى تأخذ بعدا إقليميا أو دوليا موسعا وتصير مجال اهتمام كونى، تكون منصات التواصل فى المقدمة متابعة وأثرا لأنها الأقرب دوما والأكثر التصاقا والأيسر استخداما والأكثر تنوعا وإتاحة عبر شاشة الهاتف الذكى الذى لا يفارق الأيدي ليكون أول ضوء يطالعوه فى النهار وآخر ضوء يغلق عليه البشر عيونهم ليلا قبل المنام، وفى أثناء وقبل كل ذلك تظل الصور والرسائل والتريندات تعلو وتهبط وتتدفق على شاشات الموبايل، فهل بعد ذلك نسأل لماذا يزداد اعتماد البشر عليها؟!
ملاحظة أخرى أنه فى الأزمات الدولية والإقليمية الكبرى وفى مجال سعي مختلف أطراف الصراعات لترويج الأساس الأخلاقى والقانونى لمواقفهم وإضعاف مواقف الخصوم وتفنيد دعاواهم لن يكون كافيا ولا مؤثرا أن يتم بناء حملات منظمة رسمية أو مدفوعة، فهكذا فعلت إسرائيل واستثمرت منذ بدء حربها وعدوانها على غزة ملايين الدولارات عبر “محترفين”، ولم تنجح بل حققت أكبر خسارة دولية كبرى على صعيد علاقتها تاريخيا منذ نشأتها بالرأى العام الغربى تحديدا، وخسرت تعاطفا كان يُظن أنه دائم ويقينى ومستقر منذ الأزل، والسؤال هنا لماذا خسرت وتخسر غالبا تلك النماذج الترويجية الجاهزة فى مجال الأزمات والصرعات وبعيدا عن تسويق المنتجات والخدمات فى الظروف العادية؟ لأنه تغيب عن كثير من عناصر تلك المنظومة المجهزة العاطفة والالتزام المعنوى والفكرى أحيانا للعاملين بها فى ارتباطهم بالأزمات، فهم ليسوا منخرطين نفسيا وعاطفيا فى الصراع، كما أنهم مهنيون احترافيون يتكسبون، كذلك يغيب التنوع الذى يتعدى فكرة حملة يديرها شخوص قلائل برأي موحد وشعارات مغلقة ساكنة باهتة ستجد مقاومة دفاعية لدى الجمهور فهى ليست ترويجا لكيس من رقائق بطاطس أو لقطعة شيكولاته، أيضا فإنه تغيب عن تلك الحملات الجاهزة بعض مناحى العشوائية فى التفاعل مع الأزمات والتى تحمل بعض سمات البشر العاديين الذين يعيشون ويتفاعلون على المنصات، تلك الجماهير التى منحها طول ملازمة علاقتها بالمنصات الرقمية استخداما وتوظيفا مدركات ومرشحات تمنحها القدرة على الانتقاء والفرز والتجنيب، فلا يبقى ولا يستمر ولا يقوى ويمتد سوى ما يُستشعر طوعيته وبساطته وعفويته وزخم تلقائيته فى خضم أزمة إنسانية مفزعة تصحبها تساؤلات وحيرة وجودية ضخمة.