جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
أصبح بنيامين نتنياهو في مأزق خطير. كان مؤكداً للجميع أنه سينتهي به إلى السجن منذ أُبلغ في نوفمبر 2019 بقرار تقديمه للمحاكمة بتهم تتعلق بخيانة الأمانة و«الرشوة» وإساءة استغلاله السلطة، وهو ما يعني وجود أدلة قوية دامغة تٌدينه، وذلك كما يٌوضح فيلم «ملفات بيبي» للمخرجة ألكس بلوم التي حصدت أربعة جوائز دولية، ورشحت لتسع جوائز أخرى من بينها ثلاث جوائز برايم تايم إيمي.
لكن بيبي لم يستسلم للقضاء، لم يخضع للقانون معتبراً نفسه هو القانون ذاته، إذ قام بمحاولات مستميتة للإفلات من السجن. ومنها تشكيل حكومة يمينية متطرفة من إرهابيين إسرائيليين، محاولاً التأثير على القضاء وخاصة الحد من قدرة المحكمة العليا، وهو ما قلب أرجاء إسرائيل رأسا على عقب واندلعت المظاهرات الشعبية لنحو ٣٩ أسبوعاً متتالية المنددة بأفعاله، والمطالبة بالتنحي ومحاكمته في مشاهد ملهمة، حيث أصيب فيها مصور هذا الفيلم واعتقل مرات عدة، وشارك فيها شباب وشابات ومسنين من كافة الأطياف السياسية والتوجهات الفكرية.
أثناء تلك المحاكمة لرئيس وزراء إسرائيل الذي رفض التنحي عن منصبه – على خلاف ما يحدث عادة في تلك المواقف – وأثناء المظاهرات المشتعلة اندلعت أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.
هنا يطفو على السطح تساؤلين: الأول: ما الذي اختلف في العام ٢٠٢٣ عن غيره من السنوات السابقة طوال حكم نتنياهو؟ والإجابة باختصار تقبع في كلمتي «المحكمة العليا» والتي تحتاج حلقة بمفردها، سنطرحها لاحقاً.
السؤال الثاني: هل حقاً لم ينتبه نتنياهو ونظامه لهذا الخطر الذي كانت حماس تٌخطط له؟ هل حقاً لم يعلم به خصوصاً في ظل نٌظم التجسس فائقة الحساسية، والتي أثبت خلال حربه القذرة أنه قادر على معرفة أكثر وأعقد الأماكن سرية حيث اختباء قيادات ثم اغتيالها، سواء عبر التكنولوجيا أو عبر الجواسيس من الخونة المغروسين بين المقاتلين والفدائيين؟
أم أن نتنياهو كان يعلم بذلك المخطط الحماسي وتركه – عن عمد – يأخذ مجراه ويخرج إلي النور، حتى يكون تكئة لإعلان الحرب التي هي الثغرة الوحيدة لإفلات بيبي من الزج به خلف قضبان السجن؟ خصوصاً أن شهادات عدد من الشخصيات بالفيلم، واللقطات الأرشيفية تُوثق لاستنجاد الضحايا بالجيش أثناء هجوم حماس في ذلك اليوم، لكن لم يٌستجب لنداءاتهم، فأين كان الجيش؟ لماذا لم يهرع أفراد الجيش الإسرائيلي لنجدة المستغيثين؟ أم أن بيبي كان يٌريد أن يمنح حماس فرصة كافية لتنفيذ هجومها كاملاً مما يمنحه الفرصة ليُبرر رد فعله الوحشي لاحقاً؟ وهو أمر يُذكرنا بحلقات «قوة الكوابيس». إذ يبدو أن نتنياهو تعلم الدرس جيداً من أسياده الأمريكان.
يلوم أغلب المشاركين بالفيلم الوثائقي «ملفات بيبي» نتنياهو على وقوع أحداث ٧ أكتوبر ويحملونه مسئولية وقوعها – وذلك عبر الشهادات المصورة خصيصاً للفيلم، وكذلك عبر اللقطات الأرشيفية من الإعلام الإسرائيلي. تنطلق أصابع الإدانة من اعتباره الشخص الذي كان يُغذي الوحش. صحيح أنه لم يخلق حماس، لكنه كان يُغذيها ويمدها بالدعم.
نتنياهو الذي يعارض السلام، ويعارض إقامة دولة فلسطينية تعامل مع حماس لفترة طويلة على أنها صديق استراتيجي. إنه يقول للمحقق: «هذا أمر سري ولا يمكن تسريبه.. اتفقنا؟ لدينا جيران هنا، إنهم أعداء لدودون، أنا أٌرسل إليهم رسائل باستمرار، أُربكهم وأضللهم، أكذب عليهم، ثم أضربهم على رؤوسهم.»
بيبي يٌصدق على دعم حماس بملايين الدولارات
كانت خطة نتنياهو – وفق شهود الفيلم – أن تبقى غزة تحت سيطرة حماس، في حين تبقى الضفة الغربية تحت سيطرة فتح، وكان يمنع الاثنين من الاتحاد بأي شكل من الأشكال، محاولاً التفريق والإيقاع بينهما. لتحقيق ذلك كان طوال الوقت يساعد حماس على البقاء والصمود، والدليل على ذلك أنه في نفس الوقت الذي كان يخضع فيه للتحقيق القانوني رتب نتنياهو صفقة مع قطر كي تحصل حماس على ٣٥ مليون دولار شهريا من قطر.
فهل نلوم قطر؟ بالطبع لا.. لأنها كانت تريد أن تدعم فلسطين، لكن الأهم أن نتأمل ما وراء تصرف نتنياهو الذي «لم يكن له أن يمنح المال بنفسه، ولن تعطي إسرائيل المال لحماس بشكل مباشر. كذلك، لا يمكن تحويل هذا المال عبر البنوك، لأن البنوك لا تُريد أن تتورط، ولا تريد التعاون، لذلك قام رئيس وزراء إسرائيل بالتوسل لهذه الدولة الغنية جدا قطر، فهذه الحقائب المليئة بالأموال تم تسليمها إلى حماس بناء على طلب من بنيامين نتنياهو شخصيا» – حيث نرى وثيقة عليها توقيعه – و«لأن القطريين كانوا يعرفونه منذ البداية، ولا يثقون فيه، فكانوا يطلبون منه إرسال طلباته لهم كتابياً لأنهم كانوا يعلمون أن نتنياهو سيكذب في المستقبل. لقد سمح بتحويل أكثر من مليار دولار إلى أيدي حماس.»
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا سمح بيبي بمرور تلك الملايين؟ ماذا كان يتوقع بشأن إنفاق هذه الأموال؟ ألم يكن متوقعاً أن تٌنفق في التسليح؟ أم ماذا كان يعتقد هذا العقل المدبر بشأن إنفاق حماس لهذا المليار دولار؟ أليس بيبي هو مهندس الفوضى كما يصفونه؟ فماذا كان يخطط لإنجازه فوضوياً من وراء هذا المليار؟ وهل حقاً أنه سمح به لاعتقاده أنه يستطيع السيطرة على مستوى الكراهية وعلى نيران الحقد كما يفسر هو نفسه عندما سٌئل من إعلام بلده عن رأيه في دخول الأموال القطرية إلى غزة إذ رد قائلاً: «أنا أفعل كل ما في وسعي بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية لإعادة الهدوء إلى البلدات في جنوب إسرائيل، كل خطوة لها ثمنها دون استثناء، فعندما تتخذ خطوات كقائد هناك دائما ثمن، وإذا لم تستطع دفع الثمن فلا يمكنك القيادة، وأنا أعرف كيف أتحمل الثمن.»
عندما نتأمل ما خفي من الصورة، والتي يرسمها بوضوح وحسم فيلم «ملفات بيبي»، بكل الاعترافات والأقوال – من كاميرات التحقيق المهربة – سنجد أنفسنا أمام نسيج لمخطط ماكر شديد الدهاء كي تُعلن حرب إبادة غزة بضراوة، مع الحرص على إبقائها متأججة، فقد كان نتنياهو يٌغذي حماس ويمنحها الإمكانيات التي تمكنها من اتخاذ الخطوة الأولي، «كانت استراتيجيته أن يدعم المتطرفين ويٌضعف المعتدلين، حيث إبقاء حماس في غزة، بينما السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وقد انفجر هذا في وجوهنا بأبشع طريقة ممكنة في 7 أكتوبر»، بينما هو يٌخبر العالم مرارا وتكرارا بأنه: يعرف كيف يٌْواجه الإرهاب وأنه خبير في مكافحة الإرهاب، أنه حامي إسرائيل، لكننا تحت قيادته دخلنا هذه الحرب غير المعقولة والمجنونة.»
«بدأ الأمر بمقتل جيراني في المستوطنة التي أعيش فيها، في النقب، والآن هو مستمر بمقتل جيراني في غزة. أقول للذين يتحدثون عن حل عسكري إن ما يحدث الآن ليس حلاً، إنه مجرد مجزرة في غزة، لا أعتقد أن ذلك يجعل أي شيء في مستقبلنا أو حاضرنا أفضل، إنه ببساطة أمر مروع، هذا الموت، وهذا الألم وهذه القسوة أصبحت أكبر من احتمالنا» هكذا تنطق فتاة إسرائيلية عمرها ٢٠ عاماً. بينما يقول آخرون: إن اليمين المتطرف في إسرائيل يريد حربا مستمرة، حرباً لا تنتهي لأنهم يعتقدون في مخيلتهم أنه يمكننا القضاء على حماس في قطاع غزة، ثم يمكننا القضاء على حزب الله في لبنان، وربما يمكننا أن نحقق وجودنا اليهودي في قطاع غزة وأيضاً في جنوب لبنان.
مجددا، إنها شهادات كاشفة موثقة من الداخل الإسرائيلي، وللحديث بقية.