جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
في كتاب «تقنيات السرد القصصي عند نجيب محفوظ» للكاتب د.إيهاب بديوي، إضاءات مهمة توضح أساليب السرد القصصي لدى أديب مصر نجيب محفوظ عبر أعماله الإبداعية المختلفة عمومًا، وفي مجموعاته القصصية على وجه الخصوص.
يرى د.بديوي في كتابه (دار المحرر، 2023) أن قضية نجيب محفوظ كانت التفكير الدائم في معني الوجود والهدف من خلق الإنسان وما يتعرض له من عذابات وآلام وأحزان وصعوبات تجعله غير قادر على استيعاب ما يحدث.
ويتابع أن كل تفسير يسمعه له بُعدٌ ديني، وكل أزمة يعيشها الوطن لها سببٌ سياسي، وكل ألمٍ يمر به الجسد له أعماق جنسية. لا مفر إذًا من المواجهة.
وكانت المواجهة عبر مجموعة من الكتابات القصصية المهمة التي تصدى لتحليلها وإعادة قراءتها د. بديوي.
يقول المؤلف إنه في تقديمه للمجموعة القصصية «صدى النسيان»، التي جمع فيها مجموعة من القصص لم تُنشر من قبل للأديب نجيب محفوظ، يقول محمد جبريل إن النقد قد تجاهل لسنوات طويلة إلقاء الضوء على أعمال أديب نوبل في بداياته، ولم يتم ذلك بصورة مباشرة إلا بعد الرواية التاسعة الصادرة عام 1949 «بداية ونهاية». وربما جاز القول إن القصة كانت حُبَّ نجيب محفوظ الأول، رغم أنه اشتهر وأجاد في كتابة الرواية، لكنه بدأ حياته الأدبية بنشر المجموعة الأولى، ثم اختتم حياته الأدبية بكتابة ثلاث مجموعات قصصية بداية من عام 1995 بعد أن توقف تمامًا عن كتابة الرواية عام 1988 برواية «قشتمر»، وهو العام نفسه الذي حصل فيه على جائزة نوبل في الأدب.
هناك أيضًا معركة أدبية منسيّة، خاضها نجيب محفوظ دفاعًا عن القصة القصيرة.
ففي منتصف أربعينيات القرن العشرين، وجّه عباس محمود العقاد ضربة موجعة لـ«القصة» وهو الاسم الذي كان شائعًا يومها لما يسمى «بالرواية» في وقتنا الراهن، ففي عدد سبتمبر عام 1945 من مجلة «الرسالة» لصاحبها أحمد حسن الزيات، كتب العقاد مقالًا يفاضل فيه بين الشعر والقصة، ويجعل للشعر أهمية تعلو على القصة، فيقول: «ونحن قد فضلنا الشعر على القصة في سياق الكلام عليهما من كتاب «في بيتي». فكل ما قلناه إذن هو أن الشعر أنفس من القصة، وأن محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة، فلا يقال لنا جوابًا على ذلك أن القصة لازمة، وأن الشعر لا يغني عن القصة، وأن التطويل والتمهيد ضرورتان من ضرورات الشرح الذي لا حيلة فيه للرواة والقصاصين، أما أنا فجوابي على ذلك جزمًا وتوكيدًا: إن صفحات الشعر أوفر وأغنى، وإن معدن الشعر من أجل ذلك أنفس وأغنى من معدن الرواية.. على أنني لم أكتب ما كتبته عن القصة لأبطلها وأحرّم الكتابة فيها، أو لأنفي أنها عمل قيّم يحسب للأديب إذا أجاد فيه، ولكني كتبته لأقول أولًا إنني أستزيد من دواوين الشعر، ولا أستزيد من القصص في الكتب التي أقتنيها».
هكذا يهوّن العقاد من مسألة القصة ويعلي من موضوع الشعر.
لم يتصدّ أحد لمواجهة مقال عباس محمود العقاد في «الرسالة» من الكتاب ولا من الروائيين، ما عدا الروائي الصاعد يومها نجيب محفوظ. انزعج الروائي الشاب المثقف خريج قسم الفلسفة في كلية آداب القاهرة، من هجوم العقاد العنيف والساخر، خاصة أنه كان قد حسم أمره وقرر أن يهب حياته كلها لفن القصة، أو للرواية.
يقول نجيب محفوظ في سياق رده الاستثنائي على العقاد، (مجلة «الرسالة»/العدد 635/القصة عند العقاد، 3 سبتمبر 1945):
«.. فالقصة لا ترمي لمغزى يمكن تلخيصه في بيت من الشعر، ولكنها صورة من الحياة، كل فصل منها يمثل جزءا من الصورة العامة، وكل عبارة تُعين على رسم جزء من هذا الجزء، فكل كلمة وكل حركة تشترك في إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية، وكل جملة – في القصة الجيدة – تقرأ وتستعاد قراءتها ولا يغني عنها شيء من شعر أو نثر. ولا تحسين التفاصيل في القصة مجرد ملء فراغ، ولكنها ميزة الرواية حقا على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامة».
وقال نجيب محفوظ في رده أيضًا: «وحسب القصة فخرًا أنها يسرت الممتنع من عزيز الفن للأفلام جميعًا، وأنها جذبت لسماء الجمال قومًا لم يستطع الشعر على قدمه، ورسوخ قدمه، رفعهم إليها. فهل يكره العقاد ذلك، أو أنه يحب كأجداده كهنة طيبة أن يبقى فنه سرًا مغلقًا إلا على أمثاله من العباقرة؟ ولعله توجد أسباب أخرى تفسر لنا انتشار القصة هذا الانتشار الذي جعل لها السيادة المطلقة على جميع الفنون الجميلة، ولعل أهم هذه الأسباب ما يعرف بروح العصر. لقد ساء الشعر في عصور الفطرة والأساطير. أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتمًا إلى فن جديد يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال». «فالقصة» على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة، وسبب آخر لا يقل عن هذا في خطره هو مرونة القصة واتساعها لجميع الأغراض، مما يجعلها أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها.
في كتابه، يُلاحظ د.إيهاب بديوي أن بعض الرِّوائيين بدأوا يكتبون القصة القصيرة جدًّا، وبذلك يُعبِّرون عن مدى المتعة التي يُقدِّمها لهم هذا الفن، وفي هذا السياق نجد نجيب محفوظ يُصرِّح لغالي شكري عام1987 قائلًا: «من الآن فصاعدًا ستجدني أكتب القصة القصيرة جدًّا، هل تسمعني؟! القصة القصيرة جدًّا جدًّا، الكتابة أصبحت عمليةً صعبةً للغاية، ومنذ أسبوعين فقط أخبرني الطبيب أن ضمورًا قد أصاب شبكيَّة العين، فكيف أكتب الرِّواية؟» .
وهذا الكلام يُشير إلى أمرين: أولهما أن القصة القصيرة جدًّا نالت إعجاب أعظم أدباء التاريخ؛ مما يدل على أنها أدبٌ قائم بنفسه، وثانيهما يُشير إلى أن الكتابة ليست مُتعبةً بالنسبة للقارئ فقط، بل بالنسبة للكاتب أيضًا، أما القصة القصيرة جدًّا فلا تُسَبِّب أي عناءٍ!