جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
أظن أن مصر لم تعرف وزيرًا مؤثرًا للثقافة بعد الراحلين الكبيرين فتحي رضوان وثروت عكاشة في زمن الرئيس جمال عبدالناصر، سوى الوزير الفنان فاروق حسنى في زمن الرئيس مبارك. وأن كل مَن تحملوا مسؤولية وزارة الثقافة منذ يناير ٢٠١١ قد أخفقوا إلى حد كبير في أن يُحدثوا بوجودهم في الوزارة فارقًا في المشهد الثقافي المصري، وتغييرًا في الرؤية والسياسات يمثل قيمة مضافة للثقافة المصرية والدولة المصرية، رغم إخلاص وعلم وثقافة بعضهم، مثل الدكتور جابر عصفور، والدكتور عماد أبوغازى، والدكتور صابر عرب، والراحل الدكتور شاكر عبدالحميد.
وأظن أن مرجع نجاح فتحي رضوان وثروت عكاشة وفاروق حسنى فيما أخفق فيه غيرهم، أنهم كانوا أصحاب فكر ورؤية ووعي وطني متقدم، كما كانوا رجال دولة من الطراز الأول، وموضع تقدير كبير من السلطة الحاكمة، واستطاعوا بسبب قربهم من مؤسسة الرئاسة استخدام إمكانات الدولة في خدمة مشاريعهم الثقافية، سواء كان هذا المشروع يهدف إلى تثقيف الجماهير ونشر الوعى الوطني والحداثي في حالة فتحي رضوان وثروت عكاشة، أو كان يهدف كما في حالة مشروع الوزير فاروق حسنى إلى كسب رضا قطاع كبير من المبدعين والمثقفين عن سياسات وخيارات الدولة، وجعل الفن والثقافة وسيلة لتجميل وجه نظام الرئيس مبارك، وإضافة طابع ثقافي فنى حداثي عليه، يُرضى الغرب والعالم الخارجي.
ولقد كان الراحل الأستاذ فتحي رضوان على وعى كبير بتلك الحقيقة المتعلقة بأهمية قرب وزير الثقافة من دوائر الحكم العليا ورأس النظام لتنفيذ مشروعه الثقافي الوطني؛ ولهذا ذكر في كتابه (٧٢ شهرًا مع عبدالناصر) أن نجاح وزير الإرشاد القومي (الثقافة) في أداء مهمته وخدمة المشروع الوطني، يتطلب منه أن ينأى بوزارته عن مؤامرات أصحاب الهوى والمطامع الشخصية، وأن يكون ثابتًا في مقعده، قريبًا من رأس السلطة، ومؤيدًا ومحمىّ الظهر بها.
وبناءً عليه، من الإنصاف أن نقول إن إخفاق وزراء الثقافة في مصر بعد ثورة يناير في أن يُحدثوا بوجودهم فارقًا في المشهد الثقافي المصري يعود لسببين أحدهما ذاتي والأخر موضوعي: السبب الأول الذاتي يتمثل في ضعف مُقوّمات بعضهم الشخصية والفكرية والثقافية، وكونهم دون المستوى المطلوب لشغل هذا المنصب المهم. السبب الثاني الموضوعي يتمثل في عدم وجود مشروع ثقافي واضح للدولة يهدف لبناء الإنسان المصري على أسس فكرية وثقافية جديدة، ويسعى إلى الارتقاء بثقافة وفكر ووعي المصريين، وتكون وزارة الثقافة بإمكاناتها ومؤسساتها وكوادرها رأس حربة هذا المشروع.
وفصل المقال، إن تجربة العقود الأخيرة في تاريخ بلادنا قد علمتنا أن أزمة مصر ليست سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فقط، بل فكرية وثقافية أيضًا، وأن بلادنا لن تتغير نحو الأفضل على كل المستويات إلا بعد أن يعود إليها الوعي مع الروح الوطنية المصرية الأصيلة؛ الوعي بالتهديدات والمخاطر التي نجونا منها في العقدين الماضيين خاصة، واسقطت ومزقت وحدة الكثير من الدول حولنا. الوعي بقيمة التاريخ والإرث الحضاري الذي نحمله على ظهورنا. الوعي بثوابت الثقافة والهويّة المصريّة والأمن القومي المصري. الوعي بمستجدات ومتغيرات العصر والإقليم والعالم الذي نعيش فيه. الوعي بأهمية الدولة الوطنية المدنية المصرية ومؤسساتها الوطنية العريقة، وأنها طوق نجاتنا في مواجهة كافة التهديدات والمخاطر التي تستهدفنا. الوعي بدور الفن والفكر والثقافة في تشكيل الشخصية والهوية الوطنية وصنع التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي المطلوب، وصيانة وحماية انجازاته. وفي النهاية الوعي بأهمية التفكير العقلاني النقدي الذي يمكن المصريين في زمن السماوات المفتوحة وتعدد وسائل الإعلام والاتصال من مواجهة حملات الغزو الفكري والثقافي، وكشف دعاوى المغرضين وأنبياء الوطنيةِ والتديّنِ الزائفين، ومعرفة الصادقين منهم والمدلسين، ومعرفة من يقول لهم الحقيقة ومن يبيع لهم الوهم.
وهذا الوعي لن يتحقق وجوده إلا عبر مشروع ثقافي وطني تؤمن بجوانبه المتعددة وأهميته وجدواه السلطة، وتتفق معها حوله النخبة الثقافية والجماعة الوطنية، ويقوم على تنفيذه ومتابعته رجال دولة من أهل الفكر والثقافة والعمل والممارسة من نوعية فتحي رضوان وثروت عكاشة وفاروق حسني.