كتب – محمد القرش:
صباح الإثنين 11 نوفمبر عام 2009، استيقظ روبرت إنكه حارس مرمى هانوفر 96، ارتدى ملابسه متجها كعادته اليومية إلى تدريبات فريقه، لكن اليوم المذكور كان مختلفا، بعدما قرر صاحب الـ32 عاما الانتحار حزنا على ابنته.
وفي مساء ذلك اليوم، تأخر إنكه بالخارج، لتتصل زوجته تيريزا بمدرب حراس مرمى فريقه ليخبرها أنه لم يكن هناك تدريب اليوم، لتذهب سريعا إلى غرفته وتعثر على رسالة منه.
وقال نيبلونج صديق إنكه المقرب عندما اتصلت به تيريزا وأخبرته بخبر تغيب روبرت، نصحها بالاتصال بالطوارئ، وعندما أخبرتهم باسم الشخص، “روبرت إنكه”، ساد الصمت لثانيتين، حيث أدركوا أنها تتحدث عن حارس مرمى المنتخب الألماني.
وفي تمام الساعة 6:15 مساءً من ذلك اليوم، وقف روبرت إنكه أمام قطار هامبورج الذي كان يسير بسرعة 100 ميل في الساعة، وانتحر على بعد 200 متر فقط عن قبر ابنته (وفقا للشرطة الألمانية)، وعُثر على سيارته بالقرب من مكان الحادث، مفتوحة، ومحفظته على المقعد.
حياة إنكه من النعيم إلى الجحيم
“آسف لزوجتي وطبيبي، لم يعد باستطاعتي تحمل ذلك”.. هكذا كتب روبرت إنكه آخر الكلمات في حياته المأساوية.
تعرض الحارس الألماني للعديد من الصدمات خلال سنواته الأخيرة، فقد كان يعاني من الاكتئاب، حيث قال صديقه المقرب “يورج نيبلونج” إنه تم تشخيص مرضه في عام 2002 بمساعدة والده الذي لاحظ أنه ينعزل عن أسرته، حيث كان يتذكر روبرت نفسه ذاهبا إلى نعيم وجنة برشلونة وتحقيق البطولات والشهرة الواسعة، لكن لم تسر أموره في البارسا على ما يرام.
واجه الحارس صعوبات مع برشلونة، حيث أشار الكاتب رونالد رينج في كتابه “حياة قصيرة للغاية – مأساة روبرت إنكه” الحاصل على جائزة ويليام هيل، إلى أنه في مكالمة هاتفية بين الحارس الألماني وفان خال مدرب برشلونة حينها، قال له الهولندي: “لماذا تسأل عن مكانك كأساسي، أنا لا أعرفك حتى”، بجانب عدم تأقلمه مع اللاعبين في التدريبات، والمشاركة بصفة متقطعة في المباريات.
وكان أول ظهور لروبرت مع برشلونة في مباراة كأس ملك إسبانيا ضد فرق نوفيلدا من الدرجة الثالثة، بعد سلسلة من جلسات التدريبات المحبطة له، حيث وجد صعوبة في التكيف مع المسافة الكبيرة بينه وبين خط الدفاع والذي كان جزءًا لا يتجزأ من فلسفة لويس فان جال التدريبية.
وعندما هُزم برشلونة 3-2 من نوفيلدا في مباراة الكأس، ألقى قائد الفريق فرانك دي بور باللوم على إنكه في استقبال هدفين من الأهداف الثلاثة في تصريحات للصحفيين، ثم أكد لاحقا أنه أخطأ في قول تصريحاته، لكنه لم يعتذر لحارس المرمى.
ويقول فيكتور فالديز، حارس برشلونة الأسبق الذي أدى ظهوره في ذلك الموسم إلى استبعاد إنكه لحراسة مرمى برشلونة: “لقد ألقي به إلى الأسود”.
ودون الكاتب الألماني في كتابه الشهير أن إنكه وجد نفسه منبوذا من قبل الجهاز الفني الهولندي، وحاولت زوجته تيريزا ووكيله يورج نيبلونج مساعدته على الخروج من “حالته السيئة”، وكتب إنكه في دفتر ملاحظاته: “كنت منشغلاً بنفسي لدرجة أنني ابتعدت عن كل من حولي”، وقال أحد الأطباء النفسيين إن روبرت يعاني من “اكتئاب عميق من النوع الذي يعاني منه كثير من الناس بعد الحزن الشديد، أو بعد الطرد من العمل، أو بعد التنمر”.
انتقل روبرت إلى نادي هانوفر الألماني في موسم 2004/2005، وهناك أعاد إنكه مستواه المعهود، وأوفى بوعده في شبابه بأن يصبح حارس مرمى المنتخب الألماني، لكن كان التوتر الناتج عن محاولة الحفاظ على مكانه كأساسي في الفريق والخوف من السخرية وفقدان ثقة مدربيه يعودان بشكل متقطع ويزيدان من قلقه، حيث قال والده ديرك: “كان روبرت يعتقد أنني إذا لم أكن الأفضل، فلا بد وأن أكون الأسوأ، وهذا انحراف تفكيري”.
لم يكن يعرف روبرت إنكه أن العودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى قريبة، حيث توفيت ابنته لارا، بسبب عيب خلقي في القلب في عام 2006، لم تكن وفاة مؤلمة فقط لكنها كانت مدمرة، بسبب الأمل الذي تمسك به بعد العمليات الجراحية الناجحة التي خضعت لها، لكن تحمل إنكه كل تلك المعاناة، وتبنى فتاة تدعى ليلى بعد عامين من وفاة ابنته.
وأوضح وكيل أعماله وصديقه المقرب، نيبلونج، أن الاضطرابات النفسية تضاعفت مع روبرت عند كسر فكه مع المنتخب الوطني في أكتوبر 2008، ونجح روبرت في الخروج من تلك الأزمة ثم عاد ليكون الحارس الأول لألمانيا، حيث قدم أداءً رائعًا في النصف الأول من عام 2009، لكنه تعرض لانتكاسة أخرى.
وقال نيبلونج: “ظهرت عليه أعراض مشابهة لتلك التي ظهرت عليه في برشلونة؛ الخوف من الاستيقاظ والفشل، وقد ازدادت هذه الأعراض قوة، لذلك كان يجب علينا بدء العلاج”.
وأضاف: “روبرت كان دائمًا قريبا جدا من اتخاذ خطوة العلاج، والذهاب إلى العيادة، لكنه كان دائما يقول إنني إذا ذهبت إلى عيادة نفسية، فإن ذلك سيكون نهاية كرة القدم بالنسبة لي”، وكشف والده إنه قال: “هذا هو الشيء الوحيد الذي أجيده وأستمتع به (كرة القدم)”.
ووفقا للكاتب الألماني فقد كان روبرت طوال الوقت يرسم على وجهه السعادة في الأماكن العامة، حتى ذلك اليوم من شهر نوفمبر عام 2009 عندما وقف أمام قطار، وانكشف السر (ضغوط لا يستطيع تحملها) الذي كان يحرسه بداخله ولا يراه الجميع.
كيف استقبل لاعبي المنتخب الألماني خبر وفاة صديقهم؟
في الحادي عشر من نوفمبر 2009، كان لاعبو المنتخب الألماني في مطعم الفندق يستعدون لمباراة ودية ضد منتخب تشيلي، ووقف مساعد المدرب أوليفر بيرهوف ليخبرهم بخبر سيئ.
وقال مدافع أرسنال الأسبق، بير ميرتساكر، عن سماع خبر الوفاة: “حينها لم يتحدث أي لاعب لمدة 25 دقيقة، لم يستطع أحد أن يصدق ذلك، ولم يستطع أحد أن يقول كلمة واحدة، ولم يستطع أحد أن يفعل أي شيء”.
كيف نعى الألمان روبرت إنكه؟
عبّر بيكنباور عن حزنه الشديد عندما تلقى الخبر، وأكد أنه اعتبر مشاكله تافهة أمام مأساة كهذه.
وقال لوتار ماتيوس لاعب بايرن ميونخ السابق إنه تلقى صدمة قوية عند سماع هذا الخبر، وأن إقدام إنكه على الانتحار يجعل الأمر أكثر مأساوية، وأعتقد ماتيوس أنه بتبني روبرت لطفلته ليلى قد نجح في اجتياز مرحلة فقدان ابنته.
وأوضح رئيس الاتحاد الألماني لكرة القدم الأسبق ثيو تسفانتسيجر أنه تحت تأثير الصدمة والحزن الشديد، وقدم التعازي لأسرة روبرت إنكه.
ووصف مايكل بالاك لاعب تشيلسي ومنتخب ألمانيا السابق، إنتحار إنكه، بالفاجعة وأنه حزين للغاية.
وأردف رئيس نادي هانوفر مارتن كايند أنه لا يستطيع أن يفهم ما حدث، وأكد أن إنتحار حارسة منتخب ألمانيا مأساة حقيقية.
“إنها مأساة حقيقية، لا أستطيع أن أفهم ما حدث”.
حفل تأبين بحضور 45 ألف شخص
حرص كبار السياسيين والرياضيين على حضور حفل تأبين روبرت إنكه، الذي شهد حضور ما يقرب من 45 ألف مشجع في ملعب نادي هانوفر 96.
وتم تغطية نعش إنكه بالورود البيضاء وتم وضعه في وسط الملعب، وارتدى العديد من المشجعين اللون الأسود إلى جانب وشاح النادي الأخضر والأبيض والأسود.
وقبل بدء الحفل، وقف أكثر من 45 ألف شخص من المؤيدين والسياسيين والشخصيات الرياضية وصفقوا عندما اقتربت تيريزا إنكه من النعش، كما اقترب العديد من لاعبي المنتخب الألماني من النعش لتوديع زميلهم.
وفي نهاية الحفل، وبينما كان زملاؤه في فريق هانوفر 96 يحملون نعش إنكه، رفع المشجعون أوشحة النادي الخاصة بهم وهم يبكون.
ماذا فعلت تيريزا زوجة روبرت بعد وفاته؟
كانت تيريزا شغوفة بكرة القدم، لكن بعد وفاة زوجها قل اهتمامها تماما، وأنشأت مؤسسة “روبرت إنكه” من أجل زيادة وعي اللاعبين والمجتمع بمرض الإكتئاب.
وقالت زوجة إنكه في ذكرى وفاته السنوية العاشرة، أنه يجب على المدربين السماح للاعبين في غرفة الملابس أن يظهروا مشاعرهم وقولوا أنهم لا يشعرون بحالة جيدة، دون القلق من رد فعل المدرب أو خسارة مكان في الفريق.
وفضلت تيريزا أن تتذكر إنكه في عيد ميلاد زواجها وليس ذكرى وفاته، وقالت إنها ستجتمع مع العائلة والأصدقاء ويتذكروا قصصا جميلة عنه، ويتخيلوا ابتسامته الجميلة.
مسيرة روبرت إنكه المهنية
بدأ الحارس الألماني مسيرته الكروية كلاعب في نادي كارل زايس جينا تحت 19 عاما ليتم تصعيده للفريق الأول في موسم 1995/96، وينتقل إلى فريق بروسيا مونشنجلادباخ بعدها بعام واحد.
وفي موسم 1999/2000 انتقل الألماني إلى الدوري البرتغالي من بوابة بنفيكا في صفقة انتقال حر، وبعد التألق تعاقد معه برشلونة في موسم 2002/2003.
وقضى روبرت موسما واحدا مع برشلونة وبعدها انتقل إلى عدة أندية على سبيل الإعارة منها، فنربخشة التركي وتنريفه الإسباني، لينتقل نهائيا ويختتم مسيرته مع فريق هانوفر 96.